خطبة الجمعة المذاعة والموزعة
بتاريخ 29 من صفر 1442هـ - الموافق 16 / 10 / 2020م
]لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَلِيُّ الصَّالِحِينَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الصَّادِقُ الأَمِينُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ وَرِضَاهُ، ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ[ [الحديد: 28].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ:
لَمَّا كَانَتِ الدُّنْيَا دَارَ عَمَلٍ وَعَنَاءٍ، وَالْآخِرَةُ دَارَ حِسَابٍ وَجَزَاءٍ؛ جَعَلَ اللهُ تَعَالَى الدُّنْيَا مُنَغَّصَةً بِالِابْتِلَاءَاتِ وَالْمِحَنِ، وَمُكَدَّرَةً بِالرَّزَايَا وَالْفِتَنِ ؛ لِهَوَانِهَا عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَلِأَنَّ الْآخِرَةَ هِيَ الْمُبْتَغَى وَالْأَمَلُ؛ فَعَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، فَإِذَا هُوَ بِشَاةٍ مَيِّتَةٍ شَائِلَةٍ بِرِجْلِهَا، فَقَالَ: «أَتُرَوْنَ هَذِهِ هَيِّنَةً عَلَى صَاحِبِهَا؟ فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَلدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ عَلَى صَاحِبِهَا، وَلَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ؛ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا قَطْرَةً أَبَدًا» [رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ].
فَكَانَ الِاخْتِبَارُ بِالْخَيْرِ لِيَتَبَيَّنَ الشُّكْرُ، وَالِابْتِلَاءُ بِالشَّرِّ لِيَظْهَرَ الصَّبْرُ، فَكَمْ لِلَّهِ مِنْ نِعْمَةٍ جَسِيمَةٍ وَمِنَّةٍ عَظِيمَةٍ؛ تُجْنَى مِنْ قُطُوفِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ! وَقَدْ أَقْسَمَ اللهُ عَلَى أَنَّهُ خَلَقَ الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ وَتَعَبٍ، وَعَنَاءٍ وَنَصَبٍ؛ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ]لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ * وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ * لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ [ [البلد:1-4]، فَهُوَ يُكَابِدُ مَصَائِبَ الدُّنْيَا وَشَدَائِدَ الْآخِرَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا يَزَالُ يُقَاسِي أَنْوَاعَ الشَّدَائِدِ مِنْ وَقْتِ نَفْخِ الرُّوحِ، وَيُكَابِدُ مَشَاغِلَ الدُّنْيَا مِنَ الزَّوْجِ وَالْوَلَدِ وَالْقَرِيبِ وَالْبَعِيدِ، وَالْكَدَّ فِي طَلَبِ الرِّزْقِ وَالْمُعَايِشِ، ثُمَّ يُكَابِدُ الْكِبَرَ وَالْهَرَمَ وَالْأَوْجَاعَ وَالْأَحْزَانَ؛ فِي مَصَائِبَ يَكْثُرُ تَعْدَادُهَا، وَنَوَائِبَ يَطُولُ إِيرَادُهَا، وَلَا يَمْضِي عَلَيْهِ يَوْمٌ إِلَّا يُقَاسِي فِيهِ شِدَّةً وَيُعَانِي مَشَقَّةً، ثُمَّ الْمَوْتَ وَمَا يَتْبَعُهُ مِنْ ضَغْطَةِ الْقَبْرِ وَظُلْمَتِهِ، ثُمَّ الْبَعْثَ وَالْعَرْضَ عَلَى اللهِ وَشِدَّتَهُ، إِلَى أَنْ يَسْتَقِرَّ بِهِ الْقَرَارُ، إِمَّا فِي الْجَنَّةِ وَإِمَّا فِي النَّارِ.
عِبَادَ اللهِ:
وَمِمَّا كُتِبَ عَلَى الإِنْسَانِ مِنَ الْكَبَدِ: ابْتِلَاؤُهُ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي الَّتِي فِيهَا قِيَامُهُ بِالْوَاجِبَاتِ وَتَرْكُهُ الْمُحَرَّمَاتِ، وَمُقَاوَمَتُهُ الشُّبُهَاتِ وَمُنَازَعَتُهُ الشَّهَوَاتِ؛ قَالَ تَعَالَى: ]الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ [ [الملك:2]. وَفِي هَذِهِ التَّكَالِيفِ الشَّرْعِيَّةِ مَا فِيهَا مِنَ الْكُلْفَةِ وَالْمَشَقَّةِ، لَكِنَّهَا لَمْ تُفْرَضْ إِلَّا لِجَلْبِ الْمَصَالِحِ لِلْإِنْسَانِ وَدَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَنْهُ؛ قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: (فَمِنْ رَحْمَتِهِ سُبْحَانَهُ بِعِبَادِهِ: ابْتِلَاؤُهُمْ بِالْأَوَامِرِ وَالنَّوَاهِي رَحْمَةً وَحِمْيَةً لَا حَاجَةً مِنْهُ إِلَيْهِمْ بِمَا أَمَرَهُمْ بِهِ فَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ، وَلَا بُخْلًا مِنْهُ عَلَيْهِمْ بِمَا نَهَاهُمْ عَنْهُ فَهُوَ الْجَوَادُ الْكَرِيمُ. وَمِنْ رَحْمَتِهِ: أَنْ نَغَّصَ عَلَيْهِمُ الدُّنْيَا وَكَدَّرَهَا؛ لِئَلَّا يَسْكُنُوا إِلَيْهَا، وَلَا يَطْمَئِنُّوا إِلَيْهَا، وَيَرْغَبُوا فِي النَّعِيمِ الْمُقِيمِ فِي دَارِهِ وَجِوَارِهِ، فَسَاقَهُمْ إِلَى ذَلِكَ بِسِيَاطِ الِابْتِلَاءِ وَالِامْتِحَانِ؛ فَمَنَعَهُمْ لِيُعْطِيَهُمْ، وَابْتَلَاهُمْ لِيُعَافِيَهُمْ، وَأَمَاتَهُمْ لِيُحْيِيَهُمْ). وَمِنْهُ الِابْتِلَاءُ بِالْأَوْجَاعِ وَالْأَمْرَاضِ وَنَقْصِ الْأَوْلَادِ وَالْأَرْزَاقِ؛ كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ]وَلْنَبْلُوَنّكُمْ بشَيءٍ مِنَ الخَوْفِ والجُوعِ ونقصٍ مِنَ الأمْوَالِ والأَنْفُسِ والثّمَرَاتِ وبَشِّرِ الصّابِرِين [ [البقرة: 155].
إِخْوَةَ الْإِسْلَامِ:
وَمِنْ مُكَابَدَةِ بَنِي الْإِنْسَانِ: أَنِ ابْتَلَى اللهُ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ؛ إِمَّا بِرَفْعِ بَعْضِهِمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ؛ كَمَا قَالَ تَعَالَى: ]وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ [ [الأنعام:165]، وَإِمَّا بِالتَّفَاوُتِ فِيمَا بَيْنَهُمْ فِي حُظُوظِ الدُّنْيَا مِنَ الرِّفْعَةِ وَالضَّعَةِ، أَوِ الْفَقْرِ وَالسَّعَةِ، ] وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ [ [الزخرف:32]؛ أَيْ: لِيُسَخِّرَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا فِي الْأَعْمَالِ وَالْحِرَفِ وَالصَّنَائِعِ، فَالْغَنِـيُّ قَدْ يَسْتَسْلِمُ لِلتَّكَاثُرِ وَالطَّمَعِ، وَيَنْقَادُ لِلظُّلْمِ وَالْفَسَادِ وَالْجَشَعِ، وَيَنْسَى حَقَّ الْخَالِقِ وَحَقَّ الْخَلْقِ، وَالْفَقِيرُ قَدْ يَحْتَالُ لِفَقْرِهِ بِالْكَذِبِ وَالنِّفَاقِ.
وَكُلُّ أَنْوَاعِ الْأَذَى الَّتِي تَلْحَقُ بَنِي آدَمَ إِنَّمَا هِيَ لِاخْتِبَارِ الصَّابِرِينَ: ] وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً [ [الفرقان:20].
أَقُولُ مَا قَدْ سَمِعْتُمْ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ الْعَلِيَّ الْعَظِيمَ، فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ لِلَّهِ، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ جَلَّ فِي عُلَاهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَمُصْطَفَاهُ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا إِلَى يَوْمِ نَلْقَاهُ.
أَمَّا بَعْدُ:
فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ، وَاعْمَلُوا بِطَاعَتِهِ وَرِضَاهُ؛ فَإِنَّهُ مَنِ اتَّقَى اللهَ وَقَاهُ، وَمَنْ تَوَكَّلَ عَلَيْهِ كَفَاهُ، وَكَفَى بِاللهِ وَكِيلًا.
أَيُّهَا المُؤْمِنُونَ:
قَدْ يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ ابْتِلَاءَ الْإِنْسَانِ بِالسَّرَّاءِ إِكْرَامًا لَهُ لَا امْتِحَانًا وَاخْتِبَارًا، وَيَرَى الِابْتِلَاءَ بِالضَّرَّاءِ انْتِقَامًا وَإِضْرَارًا؛ يَقُولُ اللهُ سُبْحَانَهُ: ]فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ* وَأَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ [ [الفجر:15-16]. وَالْحَقِيقَةُ هِيَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى يَبْتَلِي الْعِبَادَ تَارَةً بِالْمَسَارِّ لِيَشْكُرُوا، وَتَارَةً بِالْمَضَارِّ لِيَصْبِرُوا، وَقَدْ تَكُونُ الْمِنْحَةُ فِي الْمِحْنَةِ، وَقَدْ تَأْتِي الْمِحْنَةُ فِي الْمِنْحَةِ، مِصْدَاقًا لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ]وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ [ [الأنبياء:35]. وَلَقَدْ أَحْسَنَ مَنْ قَالَ:
قَدْ يُنْعِمُ اللهُ بِالْبَلْوَى وَإنْ عَظُمَتْ وَيَبْتَلِي اللهُ بَعْضَ الْقَوْمِ بِالنِّعَمِ
وَلَا يَزَالُ أَهْلُ الدُّنْيَا فِي ابْتِلَاءٍ وَعَنَاءٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ؛ لِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَزَالُ الْبَلَاءُ بِالْمُؤْمِنِ أَوِ الْمُؤْمِنَةِ: فِي جَسَدِهِ وَفِي مَالِهِ وَفِي وَلَدِهِ حَتَّى يَلْقَى اللَّهَ وَمَا عَلَيْهِ مِنْ خَطِيئَةٍ» [رَوَاهُ أَحْمَدُ وَغَيْرُهُ وَصَحَّحَهُ الأَلْبَانِيُّ].
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ عَيْشَ السُّعَدَاءِ، وَمَنَازِلَ الشُّهَدَاءِ، وَالشُّكْرَ عَلَى النَّعْمَاءِ، وَالصَّبْرَ عَلَى الْبَلَاءِ، وَالنَّصْرَ عَلَى الْأَعْدَاءِ. وَاغْفِرِ اللَّهُمَّ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ؛ الأَحْيَاءِ مِنْهُمْ وَالأَمْوَاتِ. اللَّهمَّ وَفِّقْ أَمِيرَنَا وَوَلِيَّ عَهْدِهِ لِهُدَاكَ، وَاجَعَلْ أَعْمَالَهُمَا فِي رِضَاكَ، وأَلْبِسْهُمَا ثَوْبَ الصِّحَّةِ وَالْعَافِيَةِ، وَاجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا مُطْمَئِنًّا وَسَائِرَ بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ، وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.